صدر مؤخرا كتاب عن السيرة الخلدونية لمؤلفه وليد نويهض، عن مركز الفكر العربي
للبحوث والدراسات في مؤسّسة الفكر العربي، ويضم ثلاثة فصول هي؛ "رحلة ابن خلدون
غربا"، و"اكتشاف قوانين العمران"، و"رحلة ابن خلدون شرقا".

وتطرق صاحب الكتاب إلى الأبحاث الكثيرة السابقة حول حياة ابن خلدون وفكره، خصوصاً
أن عشرات الأطروحات درست الأسباب التي دفعت ابن خلدون إلى كتابة مقدمة لموسوعته التاريخية،
أو الظروف الموضوعية والسيكولوجية التي أسهمت في بلورة منظومة أفكاره. إلى جانب الأطروحات
التي توقفت أمام المراجع التي اعتمد عليها في استخلاص الدروس والعبر من حوادث التاريخ،
والبحوث التي تناولت تجربته وسيرته ومحيطه وأثرها في تشكيل وعيه.
ولم يتجاهل نويهض هذه الجوانب من حياة ابن خلدون بل آثر، ولصعوبة الإجابة عن
أسئلة يصعب الإجابة عنها، مقاربة صورة ابن خلدون بإعادة قراءة حياته وملاحقة تركيبته
الشخصية المعقّدة من خلال المحطات الكبرى التي وصفها وذكرها هو بنفسه في سيرته. وقد
اتّبع نويهض في ذلك منهج التقصي، بالاستناد إلى كل الاتجاهات التي سلكها الدارسون
(أسباب كتابة المقدمة، الظروف الموضوعبة والسيكولوجية..إلخ)؛ فركّز على البيئة الاجتماعية
والسياسيّة والعلمية التي أحاطت بابن خلدون في تونس والجزائر والمغرب، وذلك في خطّ
مواز لمساره الشخصي على هذا الصعيد، أي في تفاعله مع هذه البيئة، بدءا من سعيه للعلم
في الأندلس مرورا باعتزاله في قلعة ابن سلامة لينتج المقدمة وتاريخ المغرب قبل بلوغه
الخامسة والأربعين، وما تخلل كل هذا المسار الغني من حياة الفيلسوف من مآسٍ سبّبتها
طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية الحافلة بالمؤامرات والانقلابات في المغرب، التي
لم تحل دون انقلاب الابن على أبيه (شأن انقلاب السلطان أبو عنان الابن) على أبيه (السلطان
أبو الحسن)، وإبعاد الأخ لشقيقه (شأن السلطان أبو عنان في إبعاد شقيقه السلطان أبو
سالم).

تابع المؤلف الترجمات التي عاصرت ابن خلدون أو التي كتبت بعد وفاته مثل مؤرخ
غرناطة لسان الدين بن الخطيب (713 – 778 هـ/ 1313 – 1376م)، وابن حجر العسقلاني الذي
عاصره في مصر (773 – 853 هـ/ 1362 – 1449م)، كما اعتمد على مذكرات ابن خلدون في كتابه
"التعريف"، تقصيا، وكذلك حفراً في الروايات لتقديم تصوّر أقرب ما يكون إلى
شخصية هذا الرجل الذي عرف حياة صاخبة وشخصيات، مثل الظاهر برقوق وابنه فرج، وتيمورلنك،
وابن الخطيب، والسلطان الحفصي، وابن عرفة، وفقهاء المالكية وقضاتها، فضلاً عن أوضاع
سياسيّة متقلّبة.
وقادت منهجيّة التقصّي التي اتبعها الكاتب في مؤلفه، وردّاً على سؤال لماذا
لم يسعَ ابن خلدون إلى منصب الإمارة أو الوزارة، بل إلى منصب الحجابة؟ قادت إلى ربط
نويهض هذا الموقف برؤية ابن خلدون للتاريخ وتحليله لفترات الصعود والهبوط التي تمرّ
بها الدول، بالاستناد إلى ما كتبه ابن خلدون نفسه في المقدمة.
واستنتج نويهض أن ابن خلدون لم يطمح إلى منصب السلطان (الإمارة) لأنه يفتقد
إلى الشوكة (أو العصبية)؛ فهو من أهل نسب فقدَ منذ فترة طويلة جاه عائلته، ولا يريد
الوزارة لأن السلطان يفضّل توزيعها على ذوي القربى ومن هم أقرب إلى خلقه. إذن بقي عليه
بحكم الضرورة والظروف أن يطمح إلى منصب الحجابة.
وتابع نويهض عبر التقصّي دائما، وبالاستناد إلى طه حسين ومحمد عابد الجابري
ومحمود إسماعيل وعلي سامي النشار وعزيز العظمة، تابع البحث في أسباب كتابة هذا الأخير
مقدمته، وكيفية كتابته لها، مشيراً إلى التعدّد أو الاختلاف في قراءة المقدمة ومجالها
الرئيس، وإلى تركيز البعض على الاجتماع، أو على الدولة، أو على العصبية، أو الخطاب
التاريخي، أو المنهج والقوانين، معتبراً أن كلّ هذه الاجتهادات صحيحة بسبب شمولية المقدّمة
وقدرتها على الإحاطة بالكثير من التفاصيل. لكن نويهض ركّز اهتمامه على "علم العمران"
لدى ابن خلدون بوصفه من أبرز اكتشافاته، وبالاستناد إلى رأي ابن خلدون نفسه أيضاً،
الذي رأى أن هذا الحقل- أي علم العمران- المذكور لم يسبقه إليه أحد.
واعتبر المؤلف أن ما يميّز ابن خلدون عمّن سبقه من مؤرخين وفلاسفة ومختلف الفرق
الكلامية الإسلامية (المعتزلة) أو الباطنية (إخوان الصفا) "هو تأسيس المنهج قبل
عرض الأفكار؛ فأفكاره هي مجرد تنويعات مرتّبة عقلياً وملحقة بقانونه الذي صاغ بأدواته
قراءات متنوّعة في حقول المعرفة والتاريخ".
عبد الله توفيق-عن الوطن أونلاين بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق