السبت، مايو 16، 2009

منطقة الغرب المنكوبة تصارع قدرها وسط بحر من المياه


الفيضانات أتت على الممتلكات من زرع وبهيمة ومساكن

منطقة الغرب: نورالدين اليزيد

حتى وإن اختلفت التسميات ما بين النكبة والكارثة والأضرار، يبقى شيء واحد غير مختلف بشأنه، وهو أن واقع الحال يقول أن الآلاف من المواطنين المغاربة فقدوا منازلهم وزراعتهم ومواشيهم، لا لشيء، فقط لأن تلك
المنازل تدخل في عداد السكن غير اللائق وأن المياه الجارفة ما كانت لتجرف الذي جرفته لو تدخلت السلطات بنجاع

"هاد الشي ما كافيش...! ياك غير ديال سيدنا...علاش مايعطيوناش اللي يكفانا؟!" "احْنا راه معذبين..تنباتو غير في الخْلا..ما خصنا ماكْلا..باغيِين اخزاين باش ندّارْكو احنا أُوْلادنا!"،"ماشفتش ولادي..سيمَانا هاذي ..ماعرفتش فين مشاو..ما عندنا تيلفون ماعندنا والو..مشات ليا كْسيبتي أوفلاحتي..بقيت ربي كريم"! هكذا ترتفع أصواتهم عندما يرون ممثلا للإعلام لعلهم يبلغون، إلى الذين يهمهم الأمر، مطلبَهم في الغطاء وفي الخبز وفي تعويض يرونه من بات من المستحيلات لجسامة الخسارة.
فقدوا مساكنهم ومواشيهم من الأبقار والأغنام وزراعاتهم، بينما أفراد أسر العديد منهم توجهوا إلى أدغال غابة المعمورة أو إلى أقارب بمدن قريبة أو وبقرى لم تطلها سيول المياه الجارفة، ومنهم من لا يعرف، منذ أسبوع مرَّ على الكارثة الطبيعية التي ما تزال مستمرة، الوجهةَ التي ذهب إليها أفراد أسرته، برفقة آخرين من القرية التي يقطنون بنفس الدوار، في ما يشبه النزوح الجماعي إلى أماكن مجهولة قد تكون آمنة ريثما تهدأ غضبات واد الردم وواد بهت ونهر سبو، الذين ثارت ثورتهم هذه الأيام فأحالوا منطقة الغرب بحرا من المياه الغامرة التي أتت على الحرث والبناء والمواشي.
دواوير كالكبارتة بجماعة دار العسلوجي والحوافات والنويرات والخنيشات بإقليم سيدي قاسم، ودواوير أولاد موسى بن احسين والعوابد وأولاد احميد والنبيكات والبغايليين وأولاد الغازي وأولاد بروص والرزاكلة والمرادسة وشرقاوة بجماعة الصفافعة، وبجماعة القصيبية دواوير المركز وأولاد خيرة والشراوطة والغلالتة وأحياء أولاد مالك وأولاد الغازي وأولاد زيد، وغيرها من الدواوير والأحياء التابعة لدائرة سيدي سليمان أو لإقليم القنيطرة مباشرة، كلها تشكل خارطة بدت شبه مغمورة بالمياه نتيجة اتحاد الوادِيين الردم وبهت مع نهر سبو ليحولوا جزءا كبيرا من جهة الغرب شراردة بني احسان إلى منطقة منكوبة بحسب ما يراه أهل المنطقة والفاعلون المحليون، أو متضررة، بحسب ما تراه الجهات الرسمية.

واد بهت الجاف..يثور!

لم تكن الساعات الأولى، من فجر يوم الأربعاء الأول الماضي، هادئة كما تعوَّد سكان حي أولاد الغازي وأولاد مالك وأولاد زيد والدواوير المتواجدة نواحي مدينة سيدي سليمان والمحايدة لوادي بهت، وفي فترة وجيزة تسارعت الأحداث وارتفعت الحناجر منذرة بـ"الحملة" أو "الدِّيكة"؛ فواد بهت الذي انتعش طيلة فصل الشتاء بعد شبه جفاف، إلا من مياه واد الحار التي تُسكب فيه، طول السنة، ها هو اليوم يُذكِّر الساكنة بأيام ثوراته سنوات الستينات، كما يذكُر ذلك مُعمّْرو المدينة من الستينيين والسبعينيين، بسبب ارتفاع نسبة الماء لسد القنصرة المقيم عليه، وهي النسبة التي بلغت أزيد من مائة بالمائة.
بضعُ دقائق فقط كانت كافية لتصبح منازل طينية وأخرى بُنيت من قصدير وقصب وأعمدة وأحجار، كأن لم تكن، بينما الساكنة الذين كان معظمهم يغط في نوم الشتاء العميق ما لبثوا أن هرعوا متسابقين إلى أماكن نائية عن الضفاف المتاخمة للوادي، بعدما حملوا القليل من المتاع بما تسمح به لحظة المباغثة، في حين تعالت أصوات الأطفال كما المراهقين والنساء اللائي خُضن في عويل ولطم على الخدود جراء مصابهم الجلل وفقدان العديد منهم لمنازلهم ورزقهم الذي تعِبوا السنين كلها لتوفيره، فكانت تلك الليلة ليست كباقي الليالي خاصة بالنسبة للأطفال الذين صُدموا لهول الفاجعة في ذاك الليل الحالك، الذي سيظل موشوما في ذاكرتهم لاسيما بعد معاناتهم اللاحقة على هيجان الواد الطبيعي، ولكن هذه المرة بسبب ضعف المساعدات المقدمة إليهم، و أحيانا بسبب جحود مسؤولين ولا إنسانيتهم، حيث لم يترددوا في التهكم على ضحايا غضب الطبيعة.

"شنو جرا.. غِير الواد ادّاَ بْلادو"!

هكذا خاطب رئيس المجلس البلدي لمدينة سيدي سليمان قدور المشروحي، المعروف بسلاطة لسانه، يقول ساكنة المدينة المنكوبة، عندما خاطبته جموع غفيرة من قاطني حي أولاد الغازي، عن مصيرهم جراء مصابهم، والذين جرفت المياه مساكنهم البسيطة بساطة تفكيرهم الذي أوعز لهم ذات يوم من أيام الانتخابات على مثل هكذا ممثلين عنهم، يسخرون من ناخبيهم أيام الانتخابات كما أيام الضراء والكوارث، وهم الذين ما فتئوا يؤجلون مرارا تنفيذ مشروع محاربة السكن غير اللائق رغم وجود الوعاء العقاري منذ سنوات. ثم يذهب هذا المسؤول ليحل آخر وآخرين، ولكن هذه المرة من الإدارة الترابية، الذين عبروا للمواطنين عن عجزهم تقديم أكثر ما بوسعهم، فنقلوا العشرات من المتضررين وبحوزتهم بعض الأغطية، التي نجت من جرف سيول المياه، إلى ملحق كنيسة تعود للاستعمار الفرنسي، وآيلة للسقوط بفعل تقادمها، إلا أنها في هذه الأيام العصيبة، وبفضل بقاء سقفها قائما تمثل بالنسبة لهؤلاء مأوى أحسن بكثير من العراء والمبيت في برد قارس، حتى ولئن كان ملحق الكنيسة هذا لا يتوفر على مراحيض.
وبمحطة تلفيف الحوامض، كما كانت في السابق، قبل أن تتحول لمستودع كبير فارغ إلا من علب الحوامض البلاستيكية والقصديرية، ومن جرذان ظلت تعبث بزوايا فضاء المستودع، نزل ضيوف آخرون أتوا من حي أولاد مالك وبعض الدواوير القريبة من المدار الحضري، ليسكنوا مؤقتا هنالك على أمل أن يجدوا لهم سكنا يكون بديلا لمساكنهم البسيطة التي لم تصمد أمام عتو مياه واد بهت.
مر اليوم الأول ثم الثاني فالثالث، على الفيضانات وبينما يزيد وينقص مستوى المياه بواد بهت، يزيد عدد طالبي الالتحاق بالملجأين بينما الطاقة الاستيعابية والإمكانيات غير كافية لاستقبال أكثر من خمس مائة شخص، وهو العدد التقريبي من المستفيدين الذين استطاع المأويان السالفان استقبالهم، على المستوى الحضري للمدينة بينما في البوادي كانت الفيضانات ترسم صورا دراماتيكية أخرى لم تميز بين الإنسان والحيوان والزرع.

الإنسان والماشية..والأرض!

على مدى أزيد من ثلاثين كيلومترا، ومن حدود إقليم سيدي قاسم إلى جماعة عامر السفلية التابعة لإقليم القنيطرة، تبدو المياه على مرأى العين فُرشة واحدة اجتاحت البلاد والعباد إلا من شاءت الجغرافيا أن يكون مسكنه أو بستانه أو حقله جاء بربوة عالية. لكن واقع الحال يقول بأن القليلين هم من كانوا محظوظين وتجنبوا فيضة واد بهت، بينما الغالبية ذهبت مواشيهم ومزروعاتهم ومساكنهم أدراج المياه! "الوليدات ضاعوا..مستقبلهم ضاع" قال قائل من الذين تحدثوا إلى "المساء"، والمتحذر من دوار المويلحة بجماعة الصفافعة، قبل أن يتدخل آخر يبدو أنه أكثر ألما وهو ما تبديه عيناه المغرورقتين، فانبرى يقسم بأغلظ الأيمان، بأن سيول المياه الهائجة جرفت 36 رأسا من الماشية وهي كل ما كان يملك، بينما البغلة ما تزال محاصرة بالمياه ولا يستطيع إنقاذها، في غياب تام لرجال الوقاية الذين يمرون من أمامه بـ"الزدياك" متجهين إلى جماعة القصيبية التي يترأسها وزير العدل عبد الواحد الراضي، يقول المتحدث، وأما أسرته فقد ذهب بعضهم عند الأهل في مناطق آمنة، بينما ابنه البالغ من العمر اثنين وعشرين سنة ينزل بمستشفى المدينة بعد إصابة خطيرة في أول ليلة من الفيضانات عندما كان يساعد والده على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
حالات أخرى تعجز الكلمات عن إيجاد الأوصاف لها، صادفتها المساء وهي تجول بين الدواوير، فمنهم من فقد أبقارا وأغناما ومنهم من تهدم منزله والكثيرون هم من بار زرعُهم، ليقطعوا كيلومترات عدة مغمورة بالمياه، حتى يصلوا إلى نقطة توزيع المساعدات الغذائية، وعندما يصلون يظلون طول النهار فقط بقصد التسجيل في لوائح المستفيدين، وقد لا يسعفهم طول الطوابير في نيل حصتهم والتي تختلف نوعيتها في ما إذا كانت معلبة بعلبة كارطونية مطبوعة بعلامة مؤسسة محمد الخامس للتضامن، أو ملفوفة في كيس بلاستيكي أسود ما يدل على أن مصدرها هم المحسنون. مساعدات يقول بشأنها الموجهة إليهم أنها لا تكفي لعشاء ليلة أسرة تتكون من ستة أفراد، بأحرى إن كانت الأسرة تتكون من أكثر من عشرة، والذين هم في أمس الحاجة إلى خيمة تَقيهم قساوة البرد وتجمع شمل أفراد أسر توزعوا على الجيران والأقارب في المدار الحضري لمدينة سيدي سليمان وبمدن مجاورة كسَلا وسوق الأربعاء الغرب والقنيطرة. غير أن كابوسا آخر سيظل جاثما على صدور هؤلاء الفلاحين البسطاء والعمال الزراعيين، حتى ولو عاد ت المياه إلى مجراها الطبيعي، وهي القروض الصغرى التي يحين وقت سدادها كل أسبوع، ما يجعلهم عاجزين على ردها وهو ما يهددهم بالمتابعة القضائية من طرف المؤسسات المانحة، ما يزيد الطين بلة.

غياب الممثلين..وسلطة عاجزة!

لم يتردد غالبية الذين تحدثوا إلى "المساء" في نعت ممثليهم على مستوى البرلمان والمجالس المحلية بأبشع النعوت، متهمين إياهم باللصوصية والخيانة وبأنهم يقبلون اللحا يوم الانتخابات، كما قال أحد الغاضبين، ولكنهم اليوم يختفون. وحدها السلطات وأعوانها تعمل في ظل ضعف إمكانياتها اللوجيستيكية والغذائية على إرضاء أكبر قدر من المنكوبين، في الوقت الذي يسجل فيه المتضررون غيابا لساسة الرباط الذين يرونهم على التلفزيون كل مساء يزورون مناطق مختلفة من المغرب، مما جعلهم يتساءلون عما إذا كان هؤلاء المسؤولون ينتظرون كوارث أكثر من كارثة فقدان المسكن والزرع والبهيمة، لكي ينزلوا إلى هذا الوحل الذي يغرقون فيه.
"ما بقاش فينا الحال..على قدر الله..بقا فينا علاش ماداوهاش فينا"، صاحت ميلودة الخمسينة، قبل أن تضيف، أن "حتى وْزير ما جا عندنا أو الراضي مشا غير عند حبابو"، لكن ميلودة لم تعلم، أنه نهاية الأسبوع حط بالمدينة وفد رسمي مصغر يرأسه وزير الداخلية شكيب بنموسى ويضم أحمد أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري والجنرال حسني بن سليمان، نقلتهم طائرة مروحية، بعدما جالت بهم في أجواء المنطقة المنكوبة، إلا أن غاضبين من المتضررين لم يتقبلوا زيارتهم غير المرغوب فيها على ما يبدو، فهتفوا في حضورهم، وأرغموهم على المغادرة في اتجاه الباشوية، بعدما رشقهم أحد الأشخاص بالطين المبلل، يقول أحد الذين تابعوا الحادث.

مسيرات..أمن!

كان الغضب باديا على الذين تحدثوا إلينا، وعلامات الحسرة والتذمر لا تحتاج إلى كبير عناء لاستجلائها. وعندما يتاح لهذا الشخص أو ذاك مجال الحديث، يختلط عليه العتاب بالشكوى لينتهي به الأمر إلى التضرع إلى ربه من أجل اللطف في قدره! ولكن هناك من المتضررين من لم يستطيعوا كتم غضبهم فسارعوا إلى القيام بمسيرات عفوية، تماما كما فعل شباب متحذرون من دوار الرزاكلة حين قطعوا مسافة أكثر من ثمانية كيلومترات سيرا على الأقدام في اتجاه مقر بلدية سيدي سليمان، يم الاثنين، حيث وقفوا احتجاجا على ضعف المساعدات والخدمات المقدمة إليهم، كما يقولون. ونفس الشيء، ولكن بحدة أكثر هذه المرة، وقع بالخنيشات بإقليم سيدي قاسم، يوم الثلاثاء، عندما فوجئ المواطنون بثمن الخبزة يرتفع بكيفية صاروخية، فاندفع العشرات من الشباب غاضبين في شكل زمر وطفقوا يكسرون واجهات بعض المحلات التجارية وبعض الوكالات البنكية، ما جعل قوات الدرك والقوات المساعدة تتدخل. وعلى مداخل مدينتي سيدي قاسم وسيدي سليمان وامام بعض الإدارات شوهدت ناقلات وشاحنات وسيارت تقل عناصر من الأمن والقوات المساعدة والجيش رابضة، ما يطرح السؤال حول جدوى حضور هذه القوات، الذي تفسره الجهات الرسمية باستعداد هؤلاء لتقديم العون والمساعدة للمتضررين، بينما فسره فاعلون سياسيون بأنه استعراض رمزي ورسالة إلى الذين يودون القيام باحتجاجات غاضبة، على شاكلة احتجاج الخنيشات.

فاعلون..حصيلة!

كانت خلية تتكون من بعض الفاعلين السياسيين وأفراد المكتب المحلي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان تتأهب لعقد اجتماع من أجل تدارس وضع المتضررين ذاك اليوم، عندما التحقت بالاجتماع "المساء"، التي اطلعت عن كثب للدور النشيط الذي يقوم به هؤلاء الفاعلون بقصد التخفيف من عبء السلطات ومساعدة المتضررين؛ ووحدهم هؤلاء من فطنوا إلى حجم الكارثة، وأصدروا بيان إغاثة، في وقت سابق، معلنين فيه كون منطقة الغرب منطقة منكوبة، وهو ما استجاب له بعض ذوي النيات الحسنة، فبادروا إلى إرسال مساعدات غذائية وأخرى على شكل أغطية وأدوية. وبحسب مصادر من هؤلاء الفاعلين فإن حجم الكارثة خلف أكثر من ثلاثين ألف متضرر، على مستوى البوادي، بينما العدد فاق الألف متضرر على صعيد المدار الحضري لمدينة سيدي سليمان، في حين فاقت الأراضي الفلاحية التي أفسدتها سيول المياه الثمانين ألف هكتار، وأما عدد المنازل المنهارة فاللائحة مرشحة للارتفاع بسبب استمرار تهاويها كل يوم ومن المرتقب أن يصل العدد إلى المائات من البيوت التي دكتها المياه.

"نكبةٌ" رغما عن أنفِ الحكومة!


نورالدين اليزيد

من الصعب على المرء أن يجد الكلمات المناسبة لوصف الذي يحدث بمنطقة الغرب منذ أزيد من أسبوع على الكارثة الطبيعة التي عرّت على واقع بئيس لهذا الشعب المكلوم في منتخبيه ومسؤوليه، وهي الكارثة التي شردت الآلاف من المواطنين بعدما دكت منازلهم البسيطة البنيان، وبعدما أبادت الزرع والماشية، في ما يشبه الطوفان الذي لا يأتي إلا في النادر من السنوات!
ولكن من اليسير جدا على مسؤولينا القابعين ها هنا في الصالونات المكيفة في الرباط، أن يجدوا لِهكذا ظواهر طبيعة واجتماعية وسياسية، أوصافا مناسبة، يبدو أن قواميسهم المعدة خصيصا لمواجهة هذه الظروف الطارئة فقط، هي على أتم الاستعداد دائما وأبدا للمواكبة وللاستعراض عبر قنوات إعلام القطب "المتجمد"؛ لذلك سرعان ما يُنعت صحافيون يفضلون التغريد خارج السرب بأنهم تيئيسيون، وبأن المواطنين من أمثال الباعمرانيين الذين خرجوا منددين بتهريب ثروات بحرهم هم "مشاغبون" يهوون تخريب ممتلكات الخواص، ونفس الوصف أُطلق على "الخنيشاتيين"، نسبة إلى جماعة الخنيشات التي أحالت الفيضانات الأخيرة، التي ضربت منطقة الغرب، بيوتها إلى أطلال، وساكنتها إلى أشباح بسبب الجوع وجراء الصدمة التي رُزئوا بها نتيجة فُقدانهم لماشيتهم ولزراعتهم البسيطة. وحتى يمعن ساسة الرباط في إذلالهم، فقد باتوا ليلتهم، يوم الاثنين الماضي، على ثمن الخبزة بدرهم وعشرين، وأصبحوا على ثمن خرافي فاق الخمسة دراهم للخبزة الواحدة، بسبب المضاربين وأغنياء الحرب الذين استغلوا النكبة الطبيعية وحاولوا الاغتناء بسرعة، ولكن بمباركة الدولة، التي في الوقت الذي، كان عليها أن تحارب هؤلاء السماسرة، حشدت مختلف عناصر الأمن من المدن المجاورة، وهرعت لإخماد ما تحتفظ لها به الذاكرة، "السيبة".
إن الذي يحدث منذ أكثر من أسبوع بمنطقة الغرب بسبب الفيضانات، خاصة بالقرى ناحية مدينة سيدي سليمان، لا يحتاج إلى إذن من الجهات الرسمية لكي يُصنف ضمن خانة ما يطلق عليه وصفُ "النكبة"، مهما حاولت حكومتنا الاجتهاد في الإكثار من مساحيق التجميل التضليلية؛ ولكن قد نجد العُذر، كل العذر، للدولة وبخاصة لشكيب بنموسى وزير الداخلية المشرف على رسم الخارطة الترابية للبلاد، والذي يبدو أن لا تُراب بدا له عندما كان يُحلِّق في أجواء الغرب على متن الطائرة المروحية إلى جانب عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري، والجنرال حسني بنسليمان قائد الدرك الملكي الذي له من الضيعات النموذجية بالغرب ما لزميله عبد الواحد الراضي وزير العدل، أو عبد الواحد "الأراضي"، كما دأبت قبائل بني احسن على نعته تيمنا بالهكتارات من الأراضي التي يملكها بجماعة القصيبية القروية التي يترأسها، لكن فقط بالاسم، حيث لا يحضر لتسيير دواليبها إلا لِماما. فبدل التراب رأى هؤلاء الذين زاروا، عبر الجو فقط، المنطقة المنكوبة، حتى إذا ترجلوا آوتهم بلدية سيدي سليمان، خارطةً مترامية الأطراف من المياه التي تمتد من إقليم سيدي قاسم إلى إقليم القنيطرة، على مسافة يقدرها أهل المنطقة بأكثر من ثلاثين كيلومترا طولا وأكثر من نصف المسافة على مستوى العرض. وفي هذا البحر من المياه بدت لهؤلاء الزوار القادمين من الرباط، حركات تذب كأنها لأناس يندبون حظهم السيئ وقد تفرقت بأفراد أسرهم السبل، حيث منهم من آوى إلى ربوة تقيهم جرف السيول الغاضبة، ومنهم من تسابق إلى عون السلطة "المقدم" أو"الشيخ" لتسجيل اسمه للظفر بوجبة غذائية حقيرة لا تكفي لسد حتى رمق ليلة واحدة لأسرة من بضعة أفراد، بعدما يظل المستفيد المفترض من تلك الوجبة واقفا في الطابور طوال النهار، رغم اقتناعه بلا جدوى تلك المأونة، ولكنه العوز الذي يضرب بأطنابه في صفوف هؤلاء الذين تذكروا، فقط أثناء هذه المحنة الطبيعية، أن "صوتهم" الذي لا يُسمع اليوم، هو الذي جر عليهم الكارثة؛ فلا مياه الصرف الصحي، كما وعدوهم، أُنجِزت بشكل سليم لتفادي إرجاع نفاياتهم وحوائجهم التي يقضونها في المراحيض، ولا برنامج مدن بدون صفيح شملهم بشقق قادرة على أن تصمد أكثر في وجه المياه العاتية، ولا الدعم الفلاحي المفترى عليه سيعوض لهم ما دكته مياه الفياضانات من أراضي وما جرفته من رؤوس ماشية! وحده صوت عَلا في الكارثة ولم يُعلَ عليه، هو الحاجة إلى كل شيء؛ إلى الطعام والغذاء والمأوى والأمل. وهو ما لم يتوفر بالشكل الذي يعكسه حجم الدمار الذي عصف بالمنطقة وبساكنتها، والذي عكسته من جهة انتفاضة بعض الدواوير، بينما دواوير أخرى ما تزال تنتظر، وهي غارقة، لعل الذين يمدون العون يُوفون الكيل وينصبون الخيام لاتقاء قساوة البرد.
وستستمر الكارثة، حيث تبرز تقديرات أولية أن جل هؤلاء المنكوبين يعيشون ويحيون على القروض الصغرى التي تشير أولى المعطيات أن أصحابها لا يريدون تقديم حل يراعي وضعية المقترضين الإنسانية ما يشكل هاجسا يقظ مضجعهم غير الهانئ أصلا، أضف إلى ذلك التحذيرات الطبية من انتشار الأوبئة بسبب رؤوس الماشية التي نفقت، هذا مع الختم بما صدر عن وزارة الفلاحة بأنها بدأت في إحصاء الخسائر بقصد حث الفلاحين على بدائل زراعية، أليس هذا هو الضحك على الذقون؟ تلك نكبة أخرى!!

الأربعاء، مايو 13، 2009

أجمعوا على ضرورة دعم الطبقة الوسطى

باحثون يعتبرون الطبقة الوسطى صمام أمان لاستقرار وأمن المجتمع

نورالدين اليزيد

اختلف عدد من الأساتذة الباحثين، خلال ندوة دراسية، حول إمكانية وجود تعريف واحد وموحد لمفهوم الطبقة المتوسطة بالمغرب، وما إذا كانت فعلا هذه الطبقة موجودة في هرم التركيبة الاجتماعية للمجتمع المغربي، الذي عرف بالأساس سيطرة طبقة بورجوازية فاحشة وأخرى فقيرة، كرستها وضعية ما بعد الاستعمار التي سمحت بتطور اقتصاد الريع وبإصلاحات عدة في القطاع التعليمي لم تأت أكلها، لتظل الطبقة المتوسطة بالمغرب تعاني التهميش، هذا إذا لم تكن عرضة لمحاربتها من قبل أصحاب رؤوس المال الذين يتحالفون مع السياسيين لأجل نفس الغرض، يقول باحثون شاركوا في الندوة.
وكادت كل التدخلات أن تجمع على ضرورة وجود عناصر أساسية تؤطر كل تعريف للطبقة المتوسطة، وهي تقليص الفوارق السوسيو-اقتصادية بين شرائح المجتمع، وتقارب أنماط السلوك والعيش بين هذه الشرائح والنمو العددي للفئات السوسيو-مهنية المتوسطة.
واعتبر الباحث الجامعي والوزير السابق عبد الله الساعف أن الطبقة المتوسطة بالمغرب، هي تلك الطبقة التي لا تقبل أن تَستغِل أو تُستغَل، مشيرا إلى أن بعض الدراسات المقارنة بين التجربة المغربية ونظيرتها التونسية، لم تأخذ بعين الاعتبار بعد التطورات التي حدثت على التركيبة الاجتماعية المغربية منذ الاستقلال؛ حيث كانت الطبقة المتوسطة، في وقت من الأوقات، تمثل عدوا للدولة، قبل أن تعرف هذه الطبقة بعض الانتعاش، خاصة بعد سياسات الخوصصة ولبررة السوق، ولو أن إمكانية رقي بعض الفئات من المجتمع إلى الطبقة الوسطى ظلت محدودة لصعوبة الوصول إلى الرأس مال، ولكون موارد الأفراد المالية ظلت محدودة في ظل تجميد الأجور، مشيرا إلى أن الطبقة الوسطى طبقات، بحيث يمكن أن نجد طبقة وسطى سفلى وأخرى عليا، مع احتمال الصعود والنزول إلى الطبقة الغنية أو الفقيرة.
وشارك عدد كبير من الأساتذة الباحثين، في اليوم الدراسي المنظم يوم الأربعاء بالرباط، من طرف كل من رابطة الأساتذة الجامعيين الاستقلاليين والجمعية المغربية للعلوم السياسية.
وفي معرض تدخله نيابة عن الوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالشؤون الاقتصادية والعامة نزار البركة، الذي اعتذر عن حضور الندوة، اكتفى مستشاره يونس السحيمي بالتذكير بخطاب العرش للسنة الماضية، الذي لفت إلى ضرورة العمل على وجود طبقة وسطى في المجتمع المغربي، للمساهمة في تطوره، لما لهذه الطبقة من قدرة على المبادرة والخلق، وهو ما استجاب له الوزير الأول على الفور من خلال خلق لجنة يرأسها شخصيا، مكلفة بالبحث في سبل تفعيل الخطاب الملكي، قبل أن يشير مستشار الوزير إلى بعض برامج الحكومة، ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك برنامج مقاولتي، الذي أكد على أنها ساهمت في توسيع حجم الفئات التي تتوفر على دخل قار.
واختلف المتدخلون، في الندوة التي حملت عنوان "الطبقة المتوسطة والسياسات العمومية بالمغرب"، حول تحديد الامتداد التاريخي للطبقة الوسطى بالمغرب، حيث في الوقت الذي أشارت فيه جل التدخلات إلى فترة بداية الاستقلال، حينها اعتبر أفراد الحركة الوطنية، النواة الأولى لهذه الطبقة بالمغرب، انبرى متدخلون آخرون إلى الرجوع إلى القرن الثامن عشر وقت كان الحسن الأول يحشد نخبة القوم والأعيان حوله لمساعدته على تسيير شؤون سلطنته، وكان هؤلاء يتكونون بالخصوص من رجال العلم وبعض الصناع التقليديين الكبار وكبار قواد جيشه.
إلى ذلك اعتبر عبد السلام المصباحي كاتب الدولة لدى وزير الإسكان والتنمية المجالية المكلف بالتنمية المجالية، أن للفئات الوسطى بالمجتمع المغربي مؤشرات سوسيو-اقتصادية تدل على وجودها ضمن باقي مكونات المجتمع الأخرى؛ حيث نجد أن هناك 2.4 مليون أسرة بالحواضر مداخيلها السنوية تتراوح ما بين 36 ألف و180ألف درهم؛ ومن هؤلاء نسبة تملك سكنا وتصل إلى 67 بالمائة، بينما 72 بالمائة تقطن بمساكن فردية، مع الاعتماد أساسا على الادخار الذاتي، بحيث أن نسبة التمويل البنكي هي ضعيفة عند المنعشين والأسر ولا تتجاوز24 بالمائة. وأشار كاتب الدولة، في مداخلته، إلى أن هدف الحكومة الاستراتيجي، في مجال السكن، هو دعم القدرة الشرائية لأسر الفئات الوسطى، وذلك بالتحكم في النفقات المرتبطة بالسكن حتى لا تتعدى عتبة 40 بالمائة من الدخل، وتكثيف وتنويع العرض السكني وإيجاد صيغ جديدة لولوج السكن.
في سياق ذلك تساءل الباحث الجامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، تاج الدين الحسيني، حول حدود التمييز بين هذه الطبقة أو تلك ضمن التركيبة الاجتماعية، ليشير إلى أن الدراسات تركز أحيانا في تحديد الدخل بالنسبة لهذه الفئة على مبلغ 6 آلاف إلى 10 آلاف درهم، وأحيانا أخرى تشير إلى ضرورة تحديد المبلغ في ما بين 14 إلى 18 ألف درهم كدخل شهري لتحديد المنتمين للطبقة الوسطى، مشيرا إلى أن سياسة التقويم الهيكلي التي اتبعتها الدولة، شكلت خطأ جسيما في حق كل طبقات المجتمع ومنها بالأساس الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى أن ظهور "عناصر طفيلية" تشتغل بالخصوص في مجال التهريب والمخدرات والدعارة، شكلت هي الأخرى منافسة غير مشروعة لمزاحمة فئات المثقفين والنخبة على تمثيل طبقة وسطى، أضف إلى ذلك الخطر الداهم الذي تمثله القروض على هذه الفئة، داعيا إلى تدخل الدولة لحماية هذه الطبقات من جشع البنوك، قبل أن يخلص الحسيني إلى أن الطبقة الوسطى تشكل صمام أمام بالنسبة لاستقرار المجتمع وأمنه، محذرا من عطالة أصحاب الشواهد، التي قد تشكل خطرا محذقا بمستقبل البلاد
.