الأحد، يونيو 03، 2012

مغاربة عاشوا ودُفنوا ببيروت وتحولت قبورهم إلى زوايا


يمكن أن يُكذَب على الناس ردحا من الزمن، لكن لا يمكن تغيير الحقائق والزيف كل الزمن.. هذه خلاصة يمكن لدارس التاريخ أن يخرج بها كلما قلّب أمهات الكتب، والتي منها ما تؤكد على أن المغاربة فقهاء وعلماء وطلاب علم حطّوا الرحال بعدد من بلدان المعمور وتركوا هنالك آثارا لازالت شاهدة إلى اليوم، تماما كما هو الشأن في العاصمة اللبنانية بيروت

يذكرهم اللبنانيون باقتدار واحترام

كثيرة هي الآثار التاريخية التي تركها أجدادنا المغاربة بأرض المشرق العربي، والتي لم تطلها بعد الدراسات التاريخية والسوسيولوجية وغيرها من الدراسات التي ينبغي تسليطها على بعض بلدان المشرق العربي، التي تذكر كتب التاريخ أنه كان للمغاربة شأن عظيم بها، بل إن منهم من الرجال من قضوا نحبهم ودفنوا هنالك، وتحولت قبورهم إلى مزارات وزوايا يؤمها إخواننا بالمشرق العربي، تقديرا واعترافا بهؤلاء الرجال، الذين تركوا ديارهم هنا بالمغرب ورحلوا إلى هناك إما طلبا للعلم أو قصد نشره، وإما لحج البقاع المقدسة، فتحولت رحلاتهم تلك التاريخية إلى إقامات دائمة،لاسيما عندما اختلط الدم بالدم وتمت المصاهرات بين الإخوة المشارقة والمغاربة.
وتحكي روايات مختلفة أن من بين البلدان والجهات التي كان يؤمها المغاربة بلاد الشام والعراق بالإضافة طبعا إلى بلاد الحجاز (السعودية)؛ نفس الروايات أكدت أن عائلات عريقة تعيش اليوم ببعض العواصم العربية، كبيروت مثلا، هي من أصول مغربية، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على معالم حضارية وتاريخية بهذه العاصمة العربية التي ماتزال تحمل أسماء مغربية.       
وبحسب بعض الروايات فإن إسهامات المغاربة أكثر من أن تحصى في بيروت، لاسيما وأن عددا كبيرا من العائلات البيروتية تمتد جذورها إلى المغرب، وقد أسهمت هذه العائلات مع عائلات بيروتية بالوصول ببيروت إلى ما وصلت إليه كمدينة عربية، وكعاصمة لبنانية، وكمركز من أهم المراكز والمدن الحضارية والثقافية والعلمية.
ومن بين الملامح والإنجازات المغربية في بيروت إقامة المؤسسات الاقتصادية والعلمية والدينية والاجتماعية والإنسانية والعمرانية وسواها، منها على سبيل المثال؛ الإسهام في توسعة وترميم المساجد في بيروت، أو إقامتها بعد استقرارهم وتحسن أوضاعهم الاقتصادية والمالية، لاسيما المساجد في باطن بيروت وفي بعض أحياء المدينة، وما تزال هذه الإسهامات مستمرة حتى الآن.

وجود مغربي بقلب بيروت

تأسيس زوايا: كان للمغاربة دور مهم في إقامة الزوايا الإسلامية، ومنها زاوية الحمراء في باطن بيروت التي أقامها "آل الحمراء" حوالي عام 1390، وزاوية الخلع المعروفة باسم زاوية البياطرة، وقد أقامها بعض المغاربة في أوائل القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، وزاوية الشيخ حسن الراعي المغربي، وهو من كبار العلماء المسلمين في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. ويروى الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه ( الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز)، والذي زار بيروت عام 1711م، بأنه زار قبر الشيخ جبارة في مقبرة بيروت إزاء البحر، وهو من أولاد الشيخ حسن الراعي. ويرجح أن آل جبارة، شبارة، شبارو، من نسب هذا العالم المغربي الجليل، كما بنى المغاربة بواسطة أحد أتقيائهم زاوية القطن في العصور الوسطى، حوالي سنة 1390م.
كما أقام المغاربة زاوية باب المصلى قرب باب السراي، وزاوية أخرى عرفت باسم زاوية المغاربة، أنشأها أحد أتقياء المغاربة في العصور الوسطى هو الشيخ محمد المغربي، وكان موقعها قبلي جامع السراي قرب سوق سرسق.
وأسهم المغاربة أيضا وبقية أهل بيروت بإقامة العديد من المؤسسات العسكرية أو المدنية، ومن بينها الأبراج العسكرية أو المدنية منها: برج حمود في شرقي بيروت وبرج بيهم وبرج سلام وبرج شاتيلا وبرج الخضر وبرج المدور وبرج قدّورة وبرج الحمراء وبرج اللبان وسواها من الأبراج. ومن أهم أبواب بيروت التي سميت باسم إحدى العائلات البيروتية المغربية الأصل باب إدريس وهو أحد أبواب بيروت السبعة. ومن أهم المناطق التي أسهم المغاربة بتأسيسها هي منطقة الحمراء التي ما تزال حتى اليوم من المناطق الأساسية في بيروت ولبنان.

إنشاء الجبّانات(المقابر): نظرا لكثرة المغاربة في بيروت، ونظرا لخصوصيتهم طيلة قرون عديدة فقد أقاموا لأنفسهم جبانات خاصة بموتاهم خارج سور بيروت، يأتي في مقدمتها جبانة المغاربة، وهي بالقرب من جبانات المصلى، الخارجة، الغرباء. وفي القرن العشرين أقامت فرنسا جبانة خاصة بالجنود المغاربة العاملين في قواتها العسكرية، وذلك في محلة قصقص في الطريق الجديدة وهي إحدى أهم المناطق البيروتية، وما تزال هذه الجبانة قائمة حتى اليوم بالقرب من جبانة الشهداء.

إحداث الأسواق التجاريّة؛ وقد أسهم المغاربة في تطور الأسواق التجاريّة والحرفية في باطن بيروت، منها؛ سوق العطارين، وسوق القطن، وسوق النقاشين، وسوق الخياطين، وسوق النحاسين، وسوق الصاغة، وسواها. كما جلبوا من بلادهم الأشتال والمزروعات والفواكه المغربية لزراعتها في بيروت وبلاد الشام منها الليمون المغربي.

تشييد المدارس والمعاهد والجمعيات: حيث أسهمت العائلات المغربية في إقامة العديد من الكتاتيب والزوايا العلمية والمعاهد والجمعيات بالعاصمة اللبنانية بيروت وفي ضواحيها، ومن يطّلع على وظيفة الزاوية يدرك أهميتها الدينية والتعليمية. ومن يطّلع على أسماء العائلات التي أسهمت بتأسيس أهم جمعية بيروتية تعليمية ألا وهي جمعيّة المقاصد الخيرية الإسلامية يدرك الصفة والأصول المغربية لتلك العائلات، فضلاً عن إسهامها في إقامة البيمارستانات والصيدليات لاسيما في القرن التاسع عشر في العهد العثماني.
 
زوايا مغربية شاهدة..

وبالنظر إلى أهميتها القصوى في الحياة الاجتماعية بلبنان إلى غاية يومنا هذا فقد تميز الحضور المغربي بالخصوص عن طريق التأسيس لزوايا لا يزال دورها الاجتماعي والروحي متواجدا إلى حد الآن في صفوف أهالي بيروت العاصمة اللبنانية، ومن هذه الزوايا؛

1)زاوية المغاربة: حيث أنشأ هذه الزاوية أحد أتقياء المغاربة في العام 1390م، وكان الشيخ محمد المغربي مقيما فيها، وقد بني فوقها حوالي عام 1890م المكان الذي خصص لشيخ الطريقة السعدية ومريديها للقيام بالأذكار والأوراد، كان موقع هذه الزاوية قبلي جامع السرايا في وسط بيروت قرب سوق سرسق. وقد هدمت في الحرب العالمية الأولى بداعي توسيع الطرق.
وقد سميت هذه الزاوية بزاوية المغاربة، بسبب تجمع المغاربة فيها القاديمن من المغرب العربي. وكانت الأسر المغربية تواظب على عقد اجتماعاتها الدينية، وتلاوة أورادها وأذكارها في هذه الزاوية، ومن بين هذه الأسر البيروتية ذات الأصول المغربية؛ الهبري، المجذوب، طبارة، فتح الله، الغندور، القصار، شاكر، منيمنة، جلول، الصغير، العريس، إدريس، الأنسي، الكوش، فتوح، شقير، وغيرها من الأسر ذات الأصول المغربية.
وكان الشيخ محمد أديب بن محمد محرم البيروتي يقوم بقراءة القرآن الكريم في زاوية المغاربة، وذلك في القرن التاسع عشر، كما كان لهذه الزاوية العديد من الأوقاف المتضمنة دورا ودكاكين وأحكارا.

2)زاوية باب المصلى: وقد أقام هذه الزاوية المغاربة الذين توطنوا في بيروت، وكان موقعها قرب المصلى أو باب السرايا، وأمامها معالم تشير إلى روادها، ومن هذه المعالم؛ مقبرة الخارجة، مقبرة الغربا، ومقبرة المغاربة؛ وكانت كلها توجد ما بين سينما ريفولي وسوق الخضار القديم، أي ظاهر بيروت.
وكانت هذه الزاوية مسجدا وتكيّة تستضيف الغرباء عن بيروت، أوقف عليها بعض الأوقاف، وكان المتولي على أوقافها الشيخ عبد الله ابن الحاج محمد خرما شقير.

3)زاوية الشيخ حسن الراعي: وتنسب هذه الزاوية إلى الشيخ حسن الراعي المغربي، وهو من كبار العلماء المسلمين في القرن السادس الهجري، وكان الشيخ حسن يدرس في هذه الزاوية ويقيم فيها. كان موقع هذه الزاوية في باطن بيروت في شارع فخر الدين، في مكان الإطفائية القديم، في شارع المصارف اليوم بالقرب من باب يعقوب داخل سور بيروت، تهدمت هذه الزاوية في الحرب العالمية الأولى.
كان لهذه الزاوية نظار وأئمة، فقد كان الناظر عليها الشيخ حسين ابن علي المناصفي، ثم من بعده الشيخ عبد الحميد بن الحاج عمر يموت، ثم من بعده ولده الحاج سعد الدين يموت، ثم تعين فيما بعد إماما متطوعا الشيخ عبد الرؤوف بن الشيخ الهادي النصولي. لهذه الزاوية الكثير من الأوقاف المتضمنة أحكارا ودورا وبيوتا وأرطالا من الزيت، وقد جاء في أحد سجلات المحكمة الشرعية في بيروت بيان بهذه الأوقاف تحت عبارة (إلى زاوية سيدنا الشيخ حسن الراعي قدس الله سره ونور ضريحه آمين).

الراعي..علَم مغربي بلبنان

بالنظر إلى أهمية الشخصية الفذة للشيخ حسن الراعي، فقد أثيرت حولها العديد من الأسئلة والاحتمالات حول أصوله الأولى، والبلاد التي ينحذر منها، لكن، وبحسب عدد من الكتابات التاريخية، فإن الراجح هو قدومه من بلاد المغرب إلى العراق قبل أن يحل ببيروت وينتقل إلى قَطنا بسوريا حيث مات ودفن بها. ولذلك سمي الشيخ حسن الراعي القطناني حسب الرواية البيروتية، أو أسرته حسب رواية الأستاذ سعد الدين التي انتقلت من المغرب إلى مصر ثم شهبا بحوران جنوب سورية، ومنها انتقل هو إلى قطنا، وذلك حسب ما ذكر في شجرة نسب الشيخ حسن الراعي وأسرته التي نشر صورة عنها ملحقة بكتابه "قطنا بين السطور ". ثم انتقاله منها لطلب العلم والدعوة إلى الله تعالى، ووصوله إلى بيروت حيث اشتهر بين أهلها بنسب المغربي.
ومن أجل رفع اللبس عن هذه الشخصية التاريخية وأصولها الحقيقية فقد راعت هاتان الروايتان المعنى اللغوي والاصطلاحي الدارج إلى اليوم، يقال : غَرَبَتِ الشمسُ: غابَتْ فِي المَغْرِبِ؛ وَكَذَلِكَ غَرَبَ النجمُ، وغَرَّبَ. والمَغرِبُ فِي الأَصل: مَوْضِعُ الغُروبِ ، ثُمَّ استُعْمِل فِي الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ، وقياسُه الْفَتْحُ، وَلَكِنِ استُعْمِل بِالْكَسْرِ كالمَشْرِق والمسجِد. وتَغَرَّبَ: أَتَى مِنْ قِبَلِ الغَرْب. فمن المحتمل أن الشيخ حسن الراعي بعد لقائه بشيخه الرفاعي قد انتقل إلى بلاد المغرب حيث قامت دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين، ثم عاد إلى المشرق حسب الرواية البيروتية السالفة الذكر! وقد عاصر الشيخ حسن الراعي عددًا من حكامها الأقوياء الذين لقبوا أنفسهم بلقب "أمير المؤمنين" ، بينما كان زعماء المرابطين يلقبون أنفسهم بلقب "أمير المسلمين"، وذلك احترامًا منهم واعترافًا للخليفة العباسي الملقب بـ"أمير المؤمنين"؛ أما الموحدون فاعتبروا أنفسهم خلفاء للمؤمنين، وقطعوا الدعوة للخلفاء العباسيين من على المنابر، وأقاموا شعائر الإسلام، وأزالوا المنكرات وغيرها من المفاسد، وفتحوا باب الاجتهاد، ورفعوا راية الجهاد، وأعلوا راية الدين بقدر استطاعتهم ومعرفتهم في المغرب والأندلس. وهذا ما اجتذب إليهم كثيرًا من المشارقة الذين سافروا إلى المغرب، والتقوا بأنفسهم بهم، واطلعوا على مدى تطبيقهم للدعوة الإسلامية والتزامهم بالأحكام الربانية، وابتعادهم عما اعتبروه بدعًا مخالفة لجوهر الإسلام الذي تضمنه الكتاب والسنة.
والمغرب التي قد تكون السبب الأكثر احتمالاً في إطلاق هذه النسبة على الشيخ حسن الراعي، كما تذكر كتب التاريخ، هي بلاد واسعة كثيرة، وعثاء شاسعة، قال بعضهم حدها من مدينة مليانة وهي آخر حدود إفريقية إلى آخر بلاد السـوس التي وراءها المحيط وتدخل فيها جزيرة الأندلس. والمغرب تاريخيًا امتدت حدوده إلى الأندلس شمالًا، ونهر السنغال جنوبًا، وقد شكّل ثاني الدول الإسلامية التي استقلت عن الدولة العباسية بعد الأندلس، إذ أسس فيه إدريس بن عبد الله سلالة الأدارسة عند هروبه من المشـرق والتجائه إلى أقصى ما فتحه العرب من البلدان غربًا.
وبرزت المغرب في عهد سـلالة المرابطين، عندما كان لحكامها السيطرة الفعلية على ما جاورها من البلدان العربية وصولاً إلى الأندلس، وكذلك دولة الموحدين التي خلفتها كما ألمحنا أعلاه.
والمغرب الدولة العربية الوحيدة في شمال أفريقيا التي لم تدخل تحت الراية العثمانية، إلا أنها خضعت في وقت لاحق للاستعمار الفرنسي وللحماية الإسبانية، وتم تقسيم أراضيها بين الدولتين المستعمرتين، فرنسا وإسبانيا، قبل أن تحصل على استقلالها في سنة 1376 هـ /1956م( ).
نورالدين اليزيد عن موقع يا بيروت     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق