الأربعاء، مارس 16، 2011

السلوك المدني هو الحوار واحترام الآخر والشعور بالانتماء للوطن

يرى الخبراء في مجال التربية وعلم الاجتماع السوسيولوجي أن مفهوم "السلوك المدني" يحيل مباشرة على الأخلاق و"الإيتيقا"، أو ما يفسره الفلاسفة بنوع من التفكير الذي يستعمل عناصر التعقل والنقد الذاتي والتروي في التخاطب والحوار مع الآخر، وهو ما يضفي على الفكر الذاتي بُعدي الالتزام والمسؤولية.

"يجب أن تشارك في تنميته مكونات المجتمع من أسرة ومدرسة وإعلام"

نورالدين اليزيد

يصبح السلوك المدني، بالمعنى المشار إليه أعلاه، ذا مفهوم محوري واسع يشمل في طياته العديد من المفاهيم، التي تحيل في مجموعها، على التمدن والتحضر، أي على مجتمع الديمقراطية والمواطنة والتربية على احترام حقوق الإنسان، وكلها خصائص مجتمعية يتم اكتسابها والوصول إليها عبر صيرورة تاريخية، وتداخل وتحول في القيم الإنسانية، تساهم فيه عوامل مختلفة منها بالخصوص؛ الأسرة والنظام التعليمي، والإعلام، والمجتمع ككل، فما هو دور كل من هذه العوامل في خلق سلوك مدني قويم ومواطنة صادقة؟

الأسرة..المدرسة الأولى للمواطنة!

سبقت الإشارة إلى أن السلوك المدني، في أحد أبعاده، هو معنى من معاني المواطنة، التي تساهم عدة مؤسسات في تلقينها إلى الأفراد؛ أولها الأسرة التي ينبغي عليها أن تشارك، إلى جانب المؤسسات الأخرى الرسمية وغير الرسمية، في تلقين أفرادها وإكسابهم القيم والأخلاق والتوجهات الاجتماعية التي تسهم في تربية المواطنة، أي المساهمة في عملية التنشئة الهادفة إلى تنمية شعور الفرد بانتمائه إلى المجتمع والوطن، وإلى قيمه ونظامه وبيئته وثقافته، وجعله يشعر بدوره في الدفاع عن هذا الوطن وعن مؤسساته ومكتسباته، ويتفاعل إيجابيا مع باقي أفراده بشكل يسهم في تكوين مواطنين صالحين متضامنين في وجه ما قد يتهدد وطنهم من مخاطر.

ويُلخص علم الاجتماع مجال التربية على المواطنة والسلوك المدني، في أنها "عملية يتم من خلالها نقل ثقافة المجتمع إلى الأطفال". من هنا فإن الوالدين يصبحان المعلمين الأولين، والأسرة تصبح هي المدرسة الأولى التي تعلم وتلقن الأبناء كيفية انخراطهم في المجتمع بما يخدم الصالح العام؛ وذلك بتربيتهم على الأخلاق والقيم الدينية الصادقة، وإثارة انتباههم إلى مختلف القضايا الوطنية، وحضهم على الالتزام بالواجبات؛ ومن ذلك الانخراط في العمل الجمعوي الاجتماعي والتضامني مع باقي أفراد المجتمع، وخاصة منه العمل التطوعي من خلال تنظيف الشوارع والأزقة وتبييض الأرصفة والجذران وغرس الأشجار، وهذا ما يساهم في تنمية روح المسؤولية والحفاظ على الممتلكات العامة. وكذا الاستجابة لنداء الوطن في مختلف المناسبات، ومن ذلك الاستحقاقات الوطنية السياسية، حيث ما أحوج الوطن إلى أبنائه للانخراط في المجال السياسي، والمساهمة في تدبير الشأن المحلي، لقطع الطريق على السماسرة والذين لا يريدون الخير للوطن.

ولتعزيز السلوك المدني وتربية المواطنة الصالحة في نفوس أبنائها، يوصي الخبراء والمهتمون الأسرَ بضرورة التركيز على ربط الطفل بالمقومات الروحية والمادية للشخصية الوطنية، وتنشئته على التمسك بها وبقيم مجتمعه، والربط بينها وبين هويته الوطنية، وتوعيته بالمخزون الثقافي لوطنه.

المدرسة..فضاء لتكريس السلوك المدني!

في تقرير له، في يوليوز سنة 2007، أشار المجلس الأعلى للتعليم إلى أن دور المدرسة في تنمية الحس المدني وترسيخ قيم المواطنة في وجدان وسلوك المتعلمين، يتأكد من خلال استحضار وظائفها المتعارف عليها، المتمثلة في التعليم والتكوين والتأهيل، ولاسيما في التربية والتنشئة كوظيفة تجعل مسؤولية المؤسسة التعليمية مركزية ودورها راهنيا وحاسما في هذا المضمار؛ ذلك ان الغاية المثلى من التربية على السلوك المدني هي تكوين المواطن المتحلي بالأخلاق الحسنة، المعتز بالثوابت الدينية والوطنية لبلاده في احترام تام لرموزها، المتمسك بمقومات هويته بشتى روافدها، المتمتع بالحقوق والكرامة والحرية في احترام لحقوق الآخرين، الملتزم بالواجبات والقوانين والقواعد المتعاقد حولها، المسهم في الحياة الديمقراطية لبلاده، والمكتسب للمناعة تجاه السلوكات اللامدنية. ولذلك ينبغي أن تكون المدرسة فضاء يكرس كل تجليات السلوك المدني، ويتصدى بالمقابل لمختلف المظاهر السلبية المنافية له.

وبالنسبة لخبراء المجلس الأعلى للتعليم، الذين أعدوا التقرير المشار إليه، بعد قيامهم بإجراء أبحاث مع مختلف الفاعلين والمتدخلين في الحقل التربوي، محليا ووطنيا ودوليا، فإن الاهتمام بدور المدرسة في تنمية السلوك المدني يأتي على ضوء سياقات دالة أهمها؛ حتمية ترسيخ قيم المواطنة وفضائل السلوك المدني في الممارسات اليومية للأفراد والجماعات والمؤسسات، ولا سيما في خضم التحولات العميقة التي تشهدها في العصر الراهن المنظومات القيمية والثقافية، سواء في المجتمع المغربي أو غيره من بلدان العالم. ثم الدينامية التي ما فتئ يحركها إصلاح منظومة التربية والتكوين في واقع المدرسة ومحيطها، والوعي المتنامي بالدور الحاسم للمدرسة في توطيد مجتمع المواطنة المسؤولة والديمقراطية والتضامن والتنمية، والعمل الحازم لإجراء قطيعة مع كل مظاهر الإخلال بالقانون والتعصب والتطرف والانغلاق. وفي سياق، كذلك، البرامج والمبادرات التي تعرفها المدرسة المغربية في التربية على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وفي تنمية السلوكات الإيجابية.

لكن المكتسبات التي حققها المغرب في مجال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان، التي واكبت دينامية الإصلاحات المجتمعية، وخاصة منها إصلاح المنظومة التربوية الوطنية، لم تبدد الضرورة الملحة، يقول تقرير المجلس الأعلى، للتصدي الحازم والعاجل لكل تجليات السلوك اللامدني التي أضحت تواجهها المؤسسات التعليمية ولاسيما؛ مسألة العنف بشتى أشكاله، والغش بمختلف أساليبه، وعدم احترام الأدوار وسوء المعاملة، والمساس بنبل الفضاء المدرسي والجامعي، وتراجع الالتزام بالأنظمة الداخلية للمؤسسة التعليمية، والإضرار بالملك العام والبيئة. بالإضافة إلى ذلك، فهناك إشكاليات تعترض تنمية السلوك المدني في المدرسة، سواء على مستوى علاقته بالممارسة، أو على مستوى مقاربته البيداغوجية والمنهجية، وتكريسه في الحياة المدرسية والجامعية؛ فعلى مستوى الممارسة يكمن الإشكال في الهوة المتنامية بين الخطاب حول القيم والحقوق والواجبات وبين الممارسة الفعلية لها، كما ترتبط بتراجع الانضباط لقواعد وأنظمة المهنة، والالتزام بما تقوم عليه من واجبات. وفي ما يتعلق بالإشكالات البيداغوجية والمنهجية، فتتمحور حول قضايا عدة، نذكر منها؛ كيفية ترسيخ منظومة بيداغوجية للحياة مع الآخرين تعتمد إعطاء القدوة الحسنة في السلوك والمعاملة، ويكون أساسها القيام بالمسؤولية والتمتع بالحقوق في التزام تام بالواجبات. ومدى تحقيق المدرسة لوظيفتها التربوية في التنشئة الاجتماعية عبر أساليب المناهج والبرامج التكوينية بجوانبها الإنسانية والاجتماعية والنفسية. والآليات الكفيلة بتنظيم العمل المشترك في الفضاء المدرسي والجامعين وغير ذلك من الإشكالات البيداغوجية التي تعترض المؤسسة التعليمية في القيام بدورها في تنمية السلوك المدني للفرد. من هنا فإن المجلس الأعلى للتعليم يوصي بعدد من الإجراءات التي ينبغي اتخاذها بشكل عاجل لمساعدة المؤسسة التعليمية على القيام بدورها كاملا في التنشئة على المواطنة والسلوك المدني، ومن هذه الإجراءات؛ التحديد الواضح للمسؤوليات بضبط الاختصاصات التربوية والإدارية لمختلف الفاعلين في فضاء المدرسة. واعتبار أن الارتقاء البيداغوجي بالسلوك المدني في مسالك التكوين لا يمكن أن يتم بجعله مادة تخصص دراسي، بل هو مهمة تتولاها مختلف المواد والتخصصات. واعتماد مبدأ التدرج في ملاءمة المناهج والبرامج، ومراعاة الفئات العمرية للمتعلمين، تبعا لأسلاك المتعلمين مع الأخذ بعين الاعتبار أن تنمية السلوك المدني يجب أن تتم بشكل مبكر، ابتداء من التعليم الأولي. وفتح نقاش حول إطار تربوي تعاقدي للسلوك المدني بارتباط مع القوانين الداخلية للمؤسسات التربوية، وإطلاق أوراش بيداغوجية ميدانية يشارك فيها مختلف المعنيين، بإعداد برامج مبتكرة لنشر ثقافة الاستحقاق والحوار واحترام الغير وتوطيد الممارسة الديمقراطية وصيانة الملك العام والمحافظة على البيئة، وبالتفكير الجماعي، وغير ذلك من الإجراءات التي تفرض نفسها بإلحاح، في سبيل تربية سليمة على سلوك مدني ومواطنة صالحة.

أي دور لمكونات المجتمع؟

يعتبر المجتمع مزيجا من العوامل والمؤسسات الرسمية المتبادلة التأثير في ما بينها (تأثير وتأثر)، وبقدر ما تكون هذه العملية في إطار التزام متبادل بقواعد متفق عليها داخل مجتمع معين، من أجل خدمة هذا الأخير والرقي به، بقدر ما يتأثر الفرد بذلك، إنْ إيجابا أو سلبا. ويحدد جانب مهم من الخبراء مكونات المجتمع، بغض النظر عن المؤسسات الرسمية، في عدد من المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية غير الرسمية، ذات كيانات قانونية وتنشأ من قبل المواطنين. ويرتبط نشاط هذه المؤسسات، وهي تحديدا الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والنوادي الرياضية والثقافية، بفلسفة المجتمع المدني الحداثي المتحضر، المنفتح على تنوع الأفكار واختلافها، بعكس المجتمع ذي المرجعية القَبلية الضيقة. مما يحفز الأفراد على العمل الجماعي والتخلي عن الأنانية، والتشجيع على المساواة، بما في ذلك دعم حقوق المرأة، واحترام الغير والتعدد في الانتماء والأفكار، ونبذ العنف في مقابل التشجيع على الحوار وإدارة الاختلاف بطرق سلمية، مما يُسهم في نشر ثقافة السلم والتسامح. وتستند هذه المؤسسات المجتمعية، من أجل أداء دورها كاملا في تنمية السلوك المدني، إلى مرجعية المجتمع الدينية والثقافية والوطنية، التي ينبغي احترامها من طرف الجميع، وبكيفية متساوية، في جو ديمقراطي لا تمييز فيه بين هذا أو ذاك إلا بقدر ما يقدمه خدمة للوطن، من هنا فإن تعدد هذه المؤسسات دخل الوطن، يعتبر دليلا على مدى احترامه لقواعد الديمقراطية والانفتاح على مواطنيه.

إعلام مواطن..لسلوك مدني

لا يخفى على أحد في عصرنا الحالي، حيث وسائل الاتصال تعرف طفرة هائلة، مدى الدور الكبير والخطير الذي يلعبه الإعلام، بمختلف ألوانه، ولاسيما منه الإعلام السمعي البصري، في خلق رأي عام وتوجيه المجتمعات وتمرير الخطابات التي لا تخدم دائما أفراد المجتمع. من هنا فإن المراهنة على هذا الجانب من وسائل الاتصال والإعلام، والذي يسخر آخر ابتكارات التكنولوجيا الحديثة، من أجل تكوين وتنشئة المواطن على المواطنة الصالحة والسلوك المدني السليم، تقتضي توخي الحذر من لدن الساهرين على مؤسسات الإعلام، الخاصة منها والعامة، وضرورة تشبثهم هم أولا بمبادئ المواطنة الصادقة، التي تلزمهم بالالتزام بمبادئ المهنة وتقصي الحقائق وتقديمها كما هي، دون محاباة هذا الجاني أو ذاك، وبعيدا عن الإثارة والتضليل والانتهازية. ولا يمكن أن يؤدي الإعلام رسالته المُثلى في المساهمة، من جانبه، في تنمية السلوك المدني لدى المواطن، إلا بالقيام بدوره المنوط به، كسلطة رابعة، كما هو متعارف عليه في الحضارات والأمم التي بلغت شأنا في الديمقراطية والحكامة الجيدة، ولن يتأتى ذلك سوى بأن ينفتح هذا الإعلام على كافة أصوات المواطنين، وبأن يكون قنوات بين الحاكم والمحكوم، وليس حاجزا بينهما، أو بوقا دعائيا لجهات معينة من أجل خدمة مصالحها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية و غيرها، بمعنى أن يكون إعلاما مواطنا منفتح على جميع مكونات الوطن، ولاسيما أبنائه من غير أصحاب الجاه أو المال والنفوذ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق