الأحد، فبراير 27، 2011

ابتزاز وشعوذة وجنس.. من أجل زوج أو للاستشفاء من مرض مستعصي

في قلب العاصمة الإدارية للمملكة الشريفة، وفي نواحيها تنتشر أزيد من عشر أضرحة، باتت مرتعا للمشعوذين والنصابين وكذا للمكبوتين، الذين يترصدون زائرات راغبات في البحث عن أنصافهن الثانية، أو قصدا للعلاج من أمراض استعصى علاجها حتى على مستشفيات العاصمة، ومختلف العيادات الخاصة والمصحات، فيتعرض هؤلاء الزوار لمختلف أساليب الابتزاز بل والسرقة أحيانا، هذا إن لم يضطر بعضهم إلى الانخراط في طقوس مشبوهة يغلب عليها طابع الجنس، الذي قد يتحول إلى اعتداء واغتصاب

"حقائق مثيرة تجري خلف أسوار أضرحة العاصمة والنواحي"

يسمى ضريح "سيدي موسى" عند السلاويين، وفي أوساط معظم أبناء حي سيدي موسى الشعبي خاصة الشباب منهم يأبون إلا أن ينعتوه بـ"موسى" هكذا مجردا، رغم أن العديد منهم من يهوى صيد السمك بجانبه، يدع الصنارة جانبا عصر كل يوم اثنين، ويذهب بجانب الضريح كي"يصطاد" إحدى الضحايا من النساء والفتيات ممن يأتين إليه بقصد التعافي من مرض أو لطرد "العكس" والبحث عن "فارس أحلام"، فيتقمص هؤلاء الشباب العاطل، الذين تبدو على وجوه معظمهم علامات الانحراف، دور مريدي الضريح ويظفرون بمبالغ مالية وبالعديد من الدجاج المذبوح المقدم قرابين من طرف هؤلاء النساء الساذجات، اللائي لا يبخلن أيضا على من يرجون "بركاتهم" ببعض اللمسات من أيادي ناعمة تقبل أن تبحث عن "عريس" لدى ضريح يُشرف عليه "شمكارة".

كنت كلما مررت بمحطة سيارات الأجرة الكبيرة بوسط شارع الحسن الثاني بباب شالة بالرباط، حيث محطة سيارات الأجرة المتوجهة إلى مدينة سلا، وسمعت أرباب تلك السيارات ينادون الزبناء بوجهة "موسى" بدون لقب "سيدي"(يقصدون سيدي موسى بمدينة سلا)، تساءلت عن سر هذا التهكم من اسم هذا "الولي الصالح"، وعندما قمت بزيارة لضريحه لأجل استطلاع اكتشفت بأن هذا الموارى تحت الثرى والذي يُحتشد حول ضريحه بعد عصر كل يوم اثنين العشرات من الزوار والمتسكعين والمرضى نفسيا والعانسات والعذارى الراغبات في استباق سن الإحراج، إنما هو مرتع لكل أنواع النصب والدجل والتخلف بل والدعارة حتى؛ حيث يمثل فيه المنحرف دور المريد لكي ينصب على الزوار، بينما المريد يبيع فيه الشمع نفسه عشرات المرات يوميا بدون أدنى خجل. وأما الزوار فيعكسون بترددهم هذا الكثيف اهتزاز نفسية الإنسان المغربي الذي يريد أن يُشفى ويجد له زوجا عبر المرور من طقوس صيغت بدم دجاج أسود اللون وحناء مسكوبة على الصخر وكسرة خبز وسِخة ملقى بها على الأرض.

قبيل آذان العصر بدقائق معدودات كنت واقفا أمام مدخل الضريح بجانب سقاء كان منشغلا مع بعض أبناء الزبناء يروي ظمأهم قبل أن ينتبه إلي، فحسبني في البدء زبونا أنا الآخر أريد ري عطشي؛ بينما لم يكن عطشي من الماء بقدر ما كنت أبغي الغوص في عوالم هؤلاء النسوة، المنحدرات من طبقات مختلفة، واللائي يأبين إلا أن يركبن موجهة "جهل" حسبنا أن القرن الواحد والعشرين طواها في جانب التاريخ المغربي غير المأسوف عليه. هذا السقاء "الكراب" سرعان ما فطن إلى قصدي وبدأنا نتبادل أطراف الحديث عن الضريح، وعن نوعية الناس الذين يرتادونه وعن أشياء أخرى حكا لي البعض منها بتهكم أحيانا، لما يُعد في نظره، تخريفا وتحايلا على الناس، وكذا جهل أناس يأتون إلى المكان للاستشفاء والبحث عن "الطرف الآخر"ن ولحاجات أخرى لا تعلمها إلا الزائرات وهؤلاء الذين "يتمسحون" بهن، قبل أن يتمسحن هن بالضريح أو بالصخر المجاور له.

ربما بالصدفة شاءت الجغرافيا أن يقع حي سيدي موسى بمدينة سلا على الساحل الأطلسي، في بانوراما طبيعية رائعة يُحسد عليها، بحيث يطل على البحر لمدى ليس بالقصير، وفي وسط ساحة خالية من البنيان، بينما التاريخ أبى إلا أن يجعل من هذا الحي مرقدا للولي سيدي موسى؛ وعلى غرار العديد من المدن المغربية التي تأوي سادات وأولياء وسميت بأسمائها، فإن هذا الحي هو أيضا سمي نسبة إلى هذا الراقد فيه بجانب البحر. واجتماعيا وعمرانيا فإن هذا الحي يصنف بحسب أعراف ومقررات الجهات الرسمية ضمن خانة الأحياء الشعبية.

زبونات من مختلف الشرائح الاجتماعية

أثارني في البداية هذا العدد الهائل من الفتيات ذوات المظاهر الجذابة، ومنهن من أتت على متن سيارة فارهة كي تزور الضريح، ولكن سرعان ما وجدتُ ما يشبه الجواب أو بالأحرى المبرر، عندما كاد المتحدثون إلي أن يجمعوا على أن "سيدي موسى" وعائشة "البحرية" المجاورة له المسماة "مولاة المواج"، يشفيان من أمراض الأعصاب ويردان المزاج، ويهبان للعانسات والأبكار والصغيرات الأزواج! ويكفي أن تلقي نظرة على هؤلاء الزوار المنتشرين سواء بالساحة الخارجية للضريح، أو بداخل فنائه الداخلي، لتكتشف كثرة الفتيات، واللائي تشير ملابس معظمهن، وطريقة وضع مساحيق التجميل على وجوههن، وكذا تسريحات شعرهن وطريقة مشيتهن وهمسهن إلى أمهاتهن، بأنهن على قدر محترم من الثقافة والتعليم، ومنهن من ينحدرن من أحياء راقية بالرباط كحي الرياض وأكدال ومن مدن أخرى، بيد أن الصورة التي يبدين عليها وهن يغسلن وجوههن بماء الزهر أو يدمخن أيديهن بالحناء من طرف "النقاشات" المتحلقات حول الساحة الأمامية للضريح، قبل أن يدلفن إلى داخل هذا الضريح وهن حاملات بضعة شموع، كلها طقوس إن كانت تدل على شيء فإنما تدل على الرضوخ للمراسيم التي سُنت عبر الزمان، ويحرص على تطبيقها مريدون مشكوك في صفاء طويتهم، فلا تجادل هاته الفتيات ولا تكترثن بالحاضرين، فالكل هاهنا قد جاء لنفس الغرض، وهو "المزاوكة" في "الولي" ليفك العقدة، ويمنح الراغبات في الزواج رغباتهن!

"كناوة"..وأشياء أخرى

يثير انتباه الزائر إلى الساحة الخارجية لضريح"سيدي موسى" جموع غفيرة من الناس احتشدوا في شكل حلقات على شاكلة حلقات جامع "الفنا" بمدينة مراكش، بينما تعالت أصوات "حمادشة" و"كناوة" الذين يخوضون في تهييء "الحضْرة" للراغبين والراغبات في صرع أنفسهم، وإخراج الجن الذي "يسكنهم"! وفي هذه الحلقات تزول العوائق، وتنمحي الفوارق، ولا يظهر أي تمييز بين هذا وذاك أو بين جنس وآخر؛ فترى عجوزا شمطاء فعَل الزمن فعله على وجهها تقابل فتاة وسيمة ذات شعر أغر وملامح غجرية أخاذة، وهما تجذبان على إيقاع "حضرة"، تُسيل الكثير من العرق وتُنهك الأجساد. بينما المشاهدون والزوار الآخرون المحيطون بهذه "الحضرة"، ترى أعينهم شاخصة في "المتحيرين" على وقع "الحال" فيما تزاحمت أنصافهم السفلى فيما بينها فلا يكاد يجد الطفل له ممرا كي ينفذ إلى داخل الحلقة، وفي ذاك الزحام تكثر أشياء! احتكاك بعض الرجال على مؤخرات النساء، وهي عادة دأب على ممارستها العديد من المندسين في الحشود المتحلقة، إنهم مكبوتون لا يتوانون في ممارساتهم ونزواتهم هذه السمجة، ومنهم من يضطر للقذف على مؤخرة إحداهن، يقول شهود عيان، حضروا واقعة أحدهم بعدما افتضح أمره ذات يوم وأمطرته نسوة بوابل من السب والشتم حتى اضطر إلى مغادرة المكان، في الوقت الذي لم يحرك في الرجال الموجودون أي ساكن، مما وصفه البعض بأنه "تآمر" من هؤلاء، وتواطؤ على اعتبار أن العديد من نماذج هذا الرجل المكبوت يوجدون بساحة الضريح يتربصون بضحاياهم.

ويتباهى أعضاء هذه الفرق "الفولكلورية"، الذين تبدو على وجوههم آثار بينة للبؤس، بكون "بركتهم" تشفي "المسكون"، وتزيل الغمة عن المضيوم، وتفك أسر "المثقف"، أي الذي سُحر له وبات يعاكسه الحظ، فتصير الطريق سالكة لمعانقة فارس الأحلام! ولكن ملامح أفراد تلك المجموعات لا تحتاج إلى كبير عناء للقول بأن مثلهم ليسوا أكثر من بؤساء شاء القدر أن يذهب بهاء وجوههم ويمتهنهم حرفة لا تنص عليها جميع قوانين الشغل العالمية الوضعية منها وحتى السماوية، وإن كانوا يلحون على أنهم ينتمون لفرق غنائية تهتم بالتراث وبالمحافظة عليه، فيما لسان حالهم يصرخ بأنهم ليسوا أكثر من أشخاص يتوسلون لقمة عيشهم اليومي.

وعلى الضفة الأخرى من نهر أبي رقراق يثير انتباه مرتادي الساحل الأطلسي بمدينة الرباط، بالقرب من قصبة الوداية التاريخية، توافد زوار على ضريح حيث يرقد جثمان شخص يدعى سيدي اليابوري، والذي شُيد بجانب البحر ليظل عبر السنين مزارا للعوانس من الفتيات بقصد الاغتسال بمياهه لجلب السعد، الذي ليس إلا زوجا يحول دونه الحاسدون والسحرة، تقول "سعيدة" الثلاثينية، والتي لم ترفض الحديث إلينا، وإن ألمحت إلى أن الاسم الذي أدلت به غير حقيقي. وأقسمت بأن "بركة" سيدي اليابوري هي من أنقذت إحدى صديقاتها من أن تبقى "بايرة"، عندما تزوجت من مغربي مقيم بإيطاليا، ولتعيش معه هناك إلى جانب ابنهما، بعدما كانت مواظبة على زيارة هذا الضريح كل يوم أربعاء والاغتسال بمائه.

وتحكي روايات الزوار أن الاغتسال بمياه "الولي" جزئيا أو كليا، إن استطاعت الزائرة إلى ذلك سبيلا داخل الضريح يوم الأربعاء، سيجعلها تتخلص من السحر أو العين فتضحى الطريق سالكة أمام فتى الأحلام ليخطب ود هذه الفتاة. وبالإضافة إلى بركة منح الأزواج فالضريح كذلك معروف بأنه يزيل "التثقاف"، وهو السحر الذي يحول بين المرء وزوجه فيجعل العلاقة الزوجية تفتقد إلى المعاشرة الطبيعية.

وتتناسل بالعاصمة الإدارية العديد من الأضرحة، التي تعرف حركات دؤوبة من قِبل الزوار، بينما تجد مريدات بلغن من العمر عتيا، يشرفن على تنظيف فضاءات تلك الأضرحة، مقابل الاستحواذ على بيع الشموع بأبوابها للزوار، الذين لن يشفع لهم عالمنا المتطور اليوم بطرق أبواب هذه الأضرحة؛ فالناس ما زالوا يتجهون إلى الممارسات غير المفهومة ويدمنون عليها، كما يورد الدكتور مصطفى أخميس، في كتابه "طقوس وأسرار أضرحة الدار البيضاء"، الذي يوضح أيضا أنه سوف تتواصل العادة لسنوات مقبلة، لأن هذا في واقع الأمر نتاج ما انغرس في نفوس الناس منذ صباهم، "قدسية" الضريح.

"مولات المواج" واهبة الأزواج..

غير بعيد عن الضريح المطل على الساحل الأطلسي، وبين حنايا تلك الصخور التي وقفت طيلة سنين تكسر أمواج المحيط، وبداخل سرداب شُكل من تقاطعات الصخور، تطالعك جموع أناس لا تحتاج إلى ذكاء خارق أو عين فاحصة لتميز ما بين الزائر منهم وبين المعتاد على هذا المكان أو لنقل هذا الأشبه بكهف؛ حيث كل الأشياء الكائنة به ورواده وكذا أفعالهم تحيلك على زمن غابر من تاريخ أمة تسعى إلى شيء اسمه "الزواج" بين حنايا الصخور، وعند "بركة" امرأة قيل بأن اسمها كان هو عائشة، وكانت امرأة صالحة تدعو فيُستجاب لدعائها، وعندما ماتت ودُفنت إلى جانب البحر أصبحت تدعى بـ"مولات المواج"، فأضحت في عداد الموتى، وتركت هؤلاء المريدين ينحرون الدجاج الأحمر والأسود، ويدمخون الريش والخبز بالحناء، ثم يدمدمون أشياء لا يصل منها إلى سمع الزائر إلا كلمات من قبيل "باسم الله" و"محمد"! وأما ما تبقى من كلام فيحبس بداخل حناجر هؤلاء "الشمكارة"، الذين تقطعت بهم السبل، فالتجأوا إلى ممارسة طقوس مريدين بالأضرحة، فنمت أنشطتهم المشبوهة، هاهنا وفي هذا الوقت بالذات، حيث التسيب والتطاول على اختصاصات المختصين من طرف أشخاص يكفيهم تلقيب أنفسهم بـ"الشرفاء" ليمارسوا تخاريفهم في مأمن عن أنظار "موالين الوقت"؛ فيتحول لقب "الشريف" إلى أصل تجاري، و"البركة" بإذن ربها تصبح رأسمالا، بينما الدجاج غير الأبيض والسكر والشمع والماء المعدني ومال مجزى تعتبر أهم مواردهم التجارية، فيما استراق لمسات من هذه الفتاة ومن تلك المرأة تضحى من أدبيات وضروريات "البركة" أو التجارة، لأنه بمنطق هؤلاء الملقبين زُورا بالشرفاء، لا بد من لمس الراغبة في الزوج أو الصحة حتى تنال رغبتها، وفي حالات أخرى يكون المقابل أخطر من مجرد ترك هؤلاء "الشمكارة" يلمسون هذه الأجساد الأنثوية، حيث يحكي بعض الذين تحدثوا إلينا، أن من الزائرات من تضطر للاستجابة لرغبات بعضهم الجنسية، تحت مبرر عملية "الصرع"..ويحكي هؤلاء أن إحدى الفتيات تعرضت لابتزاز مالي وجنسي خطير، بعدما تلقفتها أيادي عصابة من هؤلاء "الشمكارة"، حيث في الوقت الذي بدا عليها أنها سخية ماديا وتنحدر من أسرة ذات جاه، عملت العصابة على حبك خطة لإيقاعها في حبال شراكها، وأُخبرت بأن هناك فقيها يعمل معهم يمكنه أن يصرعها لإخراج الجن من جسدها فتُفك عقدتها ويسهل عليها الزواج، بل سيمكنها الفقيه بـ"بركته"، فيطرق بابها العشرات من العرسان وتختار الذي يعجبها..لبت دعوتهم للقيام بزيارة الفقيه في تاريخ ومكان معلوم وزمن محدد، واتفقوا معها على أن تكون برفقة صديقة أو أخت لها، دون والدتها، فلبت ذلك الشرط بالإضافة إلى الشرط المالي، وهو عبارة عن ذبيحة كبيرة، ويقصدون ثمن كبش أو ثور، بحسب الاستطاعة، فاختارت الفتاة مبلغ 10 آلاف درهم..كان المبلغ مقبولا من طرف العصابة، التي عزمت على ركب مغامرتها، فالثمن قليل مقارنة بالفوز بفارس أحلام بعد جلسة "صرع"..في ذاك اليوم المشهود التقت الفتاة التي كانت رفقة ابنة خالتها بالقرب من الضريح، وكان اليوم يوم جمعة مساء، باثنين من أفراد العصابة البالغ عددهم أربعة بفقيههم، كما اتضح ذلك من بعدُ لدى تحقيقات الضابطة القضائية، وركب الجميع سيارة بيضاء "ميرسيدس" كانت بحوزتهم، انطلقت السيارة في اتجاه سيدي بوقنادل، حيث يوجد بيت الفقيه كما تم إخبارها من قبل بذلك، لكن الوجهة كانت مجهولة، ولم تقف السيارة إلا في بيت مهجور بداخل بستان غير بعيد على بوقنادل، وهناك تعرضت الفتاتان، طيلة ليلة سوداء، للاغتصاب وسلب المليون سنتيم الذي كان بحوزة الفتاة، بالإضافة إلى سرقة سلاسلهما الذهبية وهاتفيهما النقالين..قبل أن يتم نقلهما في جنح ظلام آخر الليل إلى الطريق الوطنية والإلقاء بهما في حالة يرثى لها.

ممارسات غريبة

ليس ضريح "سيدي موسى" وحده من يوجد بالمكان ذاك الرائع والمطل على المحيط الأطلسي، بل إلى جانب الضريح يُقال أن امرأة اسمها عائشة "مولات المواج" ترقد كذلك وإلى الأبد، وفضلت هي الأخرى هذا المكان "الاستراتيجي" بين الصخور المتلاطمة مع الأمواج، لتوزيع "بركاتها" على الراغبات في الزواج واللائي يعانين من "عقدة" أو "نحس". ولكن الرواة لا يحددون نوعية العلاقة المفترض التي كانت قائمة بين "موسى" و"عائشة"، وفيما إذا كانت شرعية أو غير شرعية، إلا أن الثابت هو أنهما كانا ذكيين وأوصيا بدفنهما بجانب البحر. ها هنا يأتي اليوم العاطلون ويمارسون مهنة لم يقرأوا بشأنها كتابا ولا دخلوا لأجلها مدرسة، هي مهنة "مريد" وكل أجرهم هو تلمس أيادي ناعمة لفتيات راغبات في الزواج، وإن اشتدت سذاجة إحداهن فإنها تقع فريسة "عصابة" يسمون أنفسهم "شرفاء" ويعملون على دعوتها عندهم أو عندها من أجل إقامة "حضرة" على إيقاع "حمادشة" أو "كناوة" في أجواء داخنة من كثرة"البخور" ويعم فيها صخب واحتكاك وأشياء أخرى..ويروي صيادون كذلك بالقرب من الضريح بأن هذا الأخير يؤمه العديد من الكهول الفاقدين لـ"فحولتهم"، فيبتاعون لهم سمكا طريا، ينصحونهم بحكه على أعضائهم التناسلية والإلقاء به حيا بمياه المحيط بهدف استرجاع الفحولة المفقودة مقابل قدر مهم من المال، يقول أحد هؤلاء الصيادين الذي أكد بأن بيع سمكة واحدة لمثل هؤلاء الأشخاص يعفي من العمل يوما كاملا، قبل أن ينهي كلامه متهكما بأن "العروبيا كثار في بلادنا".

الأضرحة..عيادات في مختلف التخصصات

غير بعيد عن مستشفيات ابن سينا الجامعي والشيخ زايد والعسكري والرازي للأمراض العقلية وغيرها من المصحات العامة والخاصة، وهي المراكز الاستشفائية المجهزة بأحدث التقنيات في مجال التطبيب، تؤوي العاصمة الإدارية للمملكة، بالمقابل، عددا من الأضرحة التي ما فتئت تستقبل فئة معينة من المواطنين بقصد التداوي من أمراض استعصى على الطب الحديث إيجاد الدواء الناجع لها أو لعدم قدرة المواطن البسيط على دفع التكلفة، بينما تأبى فئة من الفتيات إلا أن تلوذ ببعض هذه الأضرحة طلبا لعريس طال انتظاره.

عرفت العاصمة الإدارية للمملكة، منذ القدم، بمآثرها التاريخية المشهورة كقصبة الوداية وشالة وصومعة حسان وأبوابها وأسوارها العتيقة المتعددة كباب الرواح وباب الأحد وغيرها، لكن ما لا يعرفه العديد من زوار المدينة، هو أن من وراء جدران العاصمة ترقد جثامين أشخاص يقال عنهم أولياء، شاء التاريخ والظروف الاجتماعية المختلفة أن يحظوا بمكانة خاصة من طرف الإنسان الرباطي الذي أبى إلا أن يُشيد لهم قبورا، تختلف قيمتها العمرانية، من ضريح إلى آخر، وهي القبور التي تحولت عبر الأزمنة المتعاقبة من تاريخ المغرب إلى أضرحة شُيدت على الطراز المغربي التقليدي، الذي يتخذ من القباب والزخرفة والنقوش مظاهر للاحتفاء بأمكنة لها من القداسة والاحترام لدى المغاربة ما يجعلهم يبرعون في جعلها تحفا عمرانية.

لم تستأثر أضرحة الأولياء، بالعاصمة المغربية الرباط والنواحي، باهتمام الباحث المغربي فقط، بل كانت كذلك محط اهتمام الباحثين الأجانب كالمستشرق ليفي بروفينسال الذي تحظى الأضرحة، حسبه، بمكانة خاصة جدا في التاريخ الاجتماعي المغربي، وفي كتابه "مؤرخو الشرفاء"، قال ليفي "إن المغرب له مكان الريادة على مستوى العالم الإسلامي، من حيث إيواؤه لعدد هائل من أضرحة الأولياء؛ فمدينة الرباط ونواحيها وحدها يوجد بها أكثر من عشرة أضرحة، إضافة إلى العشرات من قبور الأولياء والصالحين المنتشرة في مختلف مناطق المغرب".

وباختلاف أضرحة العاصمة الإدارية للمملكة الشريفة، تختلف أيضا "بركاتها" التي يتبرك بها الزوار القادمون إليها من أجل قضاء حاجة في أنفسهم أو الاستشفاء من مرض قد يستعصي حتى على الأطباء إيجاد دواء لعلاجه، وتغدو تلك البركات بمثابة اختصاصات، فيختص كل واحد من هذه الأضرحة في تقديم وصفة العلاج المناسبة للحالة المعروضة عليه، وهي الوصفة التي قد لا تكلف غير أداء ثمن بعض الشموع.

فأضرحة سيدي اليابوري وسيدي العربي بن السايح وسيدي القجيري وسيدي بومجيمر وسيدي الحاج بن عاشر وسيدي عبد الله بن حسون وسيدي موسى، وغيرها من الأضرحة التي تتوزع على العدْوتين الرباط وسلا ونواحيهما، كلها أماكن يحج إليها الزوار من المدينتين ومن خارجهما، إن لم يكن ذلك طمعا في جلب عريس لعانس أو حظ لتعس أو لطلب العافية من مرض، فعلى الأقل من أجل راحة نفسية لم يجدها أشخاص حتى في صالونات عيادات مكيفة لأطباء نفسانيين، كما صرح بذلك أكثر من شخص.

لم تعر امرأة تحمل بين ذراعيها رضيعا في ربيعه الأول، وهي تجتاز باب سيدي القجيري الكائن في زقاق مزدحم بالمارة بالعاصمة، أي اهتمام لسؤالنا لها حول دواعي زيارتها لهذا الضريح، ولكن بائعة الشموع المتدثرة برداء أخضر فاقع لونه، والجالسة القرفصاء أمام الضريح تكفلت بالإجابة. حسب رأيها فإن سيدي القجيري يشفي من "العوّاقة" التي تصيب حلق الأطفال الصغار، بالإضافة إلى أمراض أخرى يكون الرضع عرضة لها؛ ذلك ما يظهره المكان الممتلئ بالنساء الحاملات بين أيديهن رُضعا، منهم كثيرون يصرخون، وكأنهم بذلك يحتجون ضد فناء الضريح هذا الذي تعمه الفوضى، حيث أزبال متناثرة هنا وهناك وقطط بئيسة تثقل الخطى في اتجاه قاذورات علّها تجد بها ما يسد الرمق، بينما كلب ضال يقف عند الباب غير آبه بزوار ألِف وجودهم بالمكان.

في "السويقة"، بالمدينة القديمة أيضا، وبمحاذاة أحد الأسوار الأثرية التي تفصل هذه المدينة عن شارع الحسن الثاني النابض بالحيوية، تكثر الحركة، خاصة بعد توقيت العصر. ورغم أن سكان مدينة الرباط ألفوا المرور أمام هذا الضريح أو ذاك، إلا أن العديد من هؤلاء لا يجد أدنى حرج في وصف "سيدي بومسيمر"، بأنه مُشفي الجرب والعديد من الأمراض الجلدية الأخرى. ويسترسل إدريس وهو أحد الباعة المتجولين، يروج بضاعته بالقرب من ضريح "بومسيمر"، في سرد حالات أتت إلى المكان للتبرك فنفعتها البركة. وألح البائع على ذكر حالة شخص قريب له كان مجرابا، فاقترح عليه هو نفسه زيارة الضريح فكان له الشفاء.

وعلى الضفة الأخرى لنهر أبي رقراق، وبالقرب من حي شعبي بمدينة سلا، يرقد "سيدي الحاج بن عاشر"، الذي أحيط ضريحه بمقبرة لموتى سكان المدينة. قبته المبيضة بالطلاء باتت إحدى مكونات المقبرة في ذاكرة زوارها، والذين لا يترددون في التبرك في الغالب بالضريح بعد أن يُعرجوا على الترحم على فقيد مدفون هناك. ولكن زيارة هذا الولي أفضل بكثير من زيارة الفقيد، يقول "السي محمد"، الذي قدم نفسه على أنه حفيد الحاج بن عاشر، وأحد الساهرين على العناية بضريحه. وحسب هذا الحفيد فالضريح قبلة للمجانين والمرضى نفسيا وحتى الصبيان منهم المصابين بمرض "الجعرة"، فإن الولي ينفعهم ببركته، ويكفي بالنسبة للمراهق المجنون أن يعكف على التمسح بجدران الضريح الداخلية، وأن تضع أم الصبي صبيها بإحدى نوافذه ثم تنبري تطوف حول الضريح، ليأتي الصرْع، فيخرج الجن من المصاب ويتعافى من مرضه، يروي حفيد هذا الولي.

"+++++++++++

عمران: ظاهرة زيارة الأضرحة متجذرة في المجتمع المغربي

يرى الباحث في علم الاجتماع عبد الرحيم عمران أن ظاهرة زيارة الأضرحة عموما، ليست ظاهرة دخيلة على المغرب بل تعتبر ظاهرة متجذرة في المجتمع المغربي، ولها امتداد تاريخي، ولكن بالمقابل هناك ظروف عدة كذلك تساهم في تكريس هذه الوضعية الاجتماعية؛ ومن ذلك ضعف المستوى التعليمي وغياب دور فعال للدولة في أداء واجبها في توعية أفراد المجتمع، بالإضافة إلى غياب سياسة ناجعة في مجال التغطية الاجتماعية والتطبيب لفائدة المواطنين، الذين يضطرون إلى البحث عن وسائط وبدائل بقصد الاستشفاء من أمراض تكون مستعصية أحيانا حتى على المستشفيات سواء الخاصة منها أو العامة.

ويضيف الباحث الاجتماعي، في تصريح سابق، أن مسألة التجذر التاريخي والثقافي في الاعتقاد، لدى شرائح مختلفة من أفراد المجتمع، برمزية الأضرحة، يتحكم فيها عامل الوعي ومستواه لدى كل شريحة على حِدة، وبمستويات متفاوتة، مؤكدا على أن مسألة ارتياد الأضرحة لا تقتصر على فئة بعينها، ولكنها تشمل شرائح مختلفة من المجتمع، وإن كانت نسبة الإقبال تضعف أو تتقوى لدى هذه الفئة أو تلك.

وأكد عمران على أن الامتداد التاريخي لظاهرة زيارة الأضرحة بالمغرب، ينفي ما يقول به البعض من كون ذلك مصدره الانفتاح الذي تعرفه بلادنا على مختلف الأصعدة، حيث لا التكنولوجيا ولا تَفتح المغرب على باقي الثقافات الأخرى، لم يؤثرا، بشكل أو بآخر، على انتشار الظاهرة بالمغرب، وإنما هذه الظاهرة تجد لها عمقا ضاربة جذوره في التاريخ المغربي، وتكرسه عوامل نفسية واجتماعية متداخلة، وهو ما يظهر جليا من خلال تصرفات مرتادي هذه الأضرحة، الذين يعتقدون بالانتماء العائلي والسلالي العريق للراقدين تحت الثرى بهذه الأضرحة، ما يساعد على استمرار الظاهرة، وأحيانا بشكل أكثر حدة من خلال إقدام الزوار على بعض الأفعال والتصرفات الغريبة.

وخلص الباحث الاجتماعي إلى أن الظروف الاقتصادية كذلك لأفراد المجتمع وغياب الإمكانيات الضرورية لتلبية الحاجيات اليومية، من خلال ضعف القدرة الشرائية وغلاء فاتورة الخدمة في المجال الطبي وغياب دور فعال للدولة، من أجل تعميم ولوج المؤسسات الصحية على المواطنين، لها دور أساسي في لجوء هؤلاء المواطنين إلى بدائل ووسائط أخرى، فتصبح الأضرحة خيارا، من بين خيارات واستراتيجيات أخرى للعيش وملاذا لهؤلاء للبحث عن تلبية حاجيات افتقدوها بمؤسسات عمومية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق